تاريخ المرقد المطهر
تاريخ أعمار العتبة منذ زمن الأمام علي الهادي (عليه السلام)
بعد استدعاء الإمام أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي عليه السلام من المدينة المنورة إلى سامراء سنة (234ه‍/857م) من قبل المتوكل العباسي، وسكنه فيها فقد أبلغ عليه السلام أنه غير مغادرها بعد يومه هذا، إذ ذكر أبو علي في أماليه: عن والده الشيخ الطوسي، عن أبي محمد الفحام، عن المنصوري محمد بن أحمد الهاشمي، عن عم أبيه عيسى بن أحمد بن عيسى قال: قال يوما الإمام علي بن محمد عليهما السلام: ”يا أبا موسى، أخرجت إلى سر من رأى كرها، ولو أخرجت عنها أخرجت كرها ”قال: قلت: ولم يا سيدي؟ قال: ”لطيب هوائها، وعذوبة مائها، وقلة دائها” الخبر(1). فاشترى الإمام الهادي عليه السلام له دارا، حين قدومه لسامراء من نصراني يقال له دليل بن يعقوب فسكنها الإمام مع أهله وعياله الذين جاء بهم من المدينة المنورة معه، دون أن يعلم الناس في ذلك الزمن إن هذا الحدث سيغير تأريخ سامراء ويشكل انعطافه حاسمة حتى في بقاءها كمدينة تسكن من قبل الناس من عدمه، فأصبحت هذه الدار فيما بعد مركز سامراء حين تحولت إلى أقدس موضع فيها، وانسحبت تلك القدسية إلى هذه المدينة، فبُنيت حول تلك الدار دور الأهالي ومتاجرهم وشقت إليها الطرق ليعيش الناس فيها ببركتها وليكونوا كالأفلاك الدائرة حول النجم المتلألئ، بعد ان اضمحل دور سامراء كعاصمة لبني العباس، وتحولها إلى أطلال وأكم بعد أن كانت أجمل وأكبر مدن ذلك الزمان باحتوائها القصور والدور الفخمة الزاهية بأهلها والتي بناها عدداً من ملوكهم، رغم أنها كانت كبيرة وضخمة ولا تقارن مادياً بتلك الدار البسيطة في بنائها والعظيمة فيما تضمه من نفحات وآثار أهل بيت النبوة عليهم السلام، فقد زالت تلك القصور بعد بنائها بفترة قصيرة نسبة لعمر المدينة الذي بقي مستمراً بعد ذلك بسبب تلك الدار المباركة التي بقيت رغم صغرها، والتي سنحاول فيما يلي بيان مراحل التطوير التي جرت عليها.
البذرة الأولى لنشأت العتبة العسكرية المقدسة
لما توفي الإمام أبو الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام بالسم الذي دسّه له الحاكم العباسي المعتز في 3 رجب سنة (254ه‍/868م) دفن في صحن داره هذه أو في حجرة من حجراتها فكان عمره يوم وفاته 42 سنة، وعمر ولده الحسن يوم وفاة أبيه 22 سنة، باعتبار أنه وُلد صلوات الله عليه سنة 232 هـ، وخرج مع أبيه لسامراء وعمره حينئذ 4 سنوات وأشهر، فبعد هذه التواريخ كلها يكون سكن الإمام الهادي عليه السلام في تلك الدار 18 سنة، وفي 8 شهر ربيع الأول سنة (260ه‍/873م) توفي الإمام الحسن العسكري عليه السلام وكان قد سمّه الحاكم العباسي المعتمد فدفن إلى جوار والده الإمام الهادي في نفس الدار طبعاً، وكان قد سكن عليه السلام فيها مدّة 23 سنة وبضعة أشهر، ويمكن أن نعتبر عمليتي الدفن هاتين نواة لتكون العتبة العسكرية المقدسة باعتبار أن الدار أصبحت فيما بعد مزاراً قبل أن تهدم وتتحول إلى مسجد تحيطه الأروقة والصحن ثم السور. في نفس العام توفيت السيدة نرجس والدة الإمام المهدي عليه السلام الذي ولد في هذه الدار في 15 شعبان من سنة 255 هـ. أن للسرداب ميزة مهمة وهو أنه جزء من تلك الدار العظيمة بأهلها عليهم السلام، المتشرفة بسكنى ثلاثة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ودفنت السيدة نرجس خلف قبر الإمامين بمسافة قليلة، وفي سنة (274ه‍/887م) توفيت السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام فدفنت جوار أخيها، ثم بعد ذلك توفي من توفي من العائلة الكريمة أمثال السيدة سوسن وقيل حديث أو حديثة والدة الإمام الحسن العسكري عليه السلام، والحسين ابن الإمام علي الهادي، وأبو هاشم الجعفري داود بن القاسم وابن الأمام علي الهادي(ع) جعفر التواب، كل هؤلاء دفنوا في دار الإمامين العسكريين عليهما السلام، بعضهم إلى جوارهما وبعضهم بالقرب منهما. في سنة (280ه‍/893م) أي بعد تولي المعتضد بالله العباسي مقاليد الحكم أرسل حرسا خاصا من بغداد لإلقاء القبض على الإمام المهدي عليه السلام وحمله إلى بغداد، فاستعان الإمام عليه السلام بالمعجزة بالتخلص من المهاجمين المقتحمين عليه الدار، وبعد ذلك التأريخ يبدو أن دار الإمام الهادي عليه السلام بقيت خالية من ساكنيها الأحياء، وأغلقت بابها حتى موت المعتضد سنة (289ه‍)، رغم أن هذا الحادث يبقى موضع تأمل، لأن الإمام المهدي عليه السلام في هذه الفترة كان في غيبته الصغرى (260/329ه‍)، ولا يعلم بموضعه أحد حتى من شيعته غير النواب الأربعة، ولو صحت هذه الرواية فيمكن القول أن الدار بعد خروج صاحب العصر–عجل الله فرجه-منها، أصبحت مدفناً لتلك الأجساد الطاهرة وتـُزار من قبل المؤمنين كبقية مراقد أهل البيت وذراريهم عليهم السلام جميعا.
العمارة الأولى للعتبة العسكرية المقدسة
في سنة (289ه‍/902م) وبعد موت المعتضد العباسي نصب شباك في جدار الدار يشرف منه المارة في الشارع على تلك القبور التي بداخلها، فكان بعض الناس من الشيعة الموالين يزورون الإمامين عليهما السلام من وراء الشباك، ونستطيع القول بأن هذا الشباك كان أول منفذ يطل منه الزائرون على القبور الشريفة في الدار. بقيت الدار على حالها ما يقرب من واحد وأربعين سنة دون أن تمسها يد التعاهد والإصلاح، ونظراً لخلو المنطقة من ساكنيها قياسا بما كانت عليه أيام زهوها، فقد تعين على بعض الناس من أصحاب الشهامة والإخلاص والولاء في بغداد أن يقوموا بتعهد تلك الروضة المطهرة وسدانتها، والقيام بشؤون زوارها، فكان أولئك الأفراد ينظمون القوافل في المناسبات ويرافقون الزوار إلى سامراء، ثم يعودون بهم إلى بغداد.
العمارة الثانية في سنة (332 ه‍/44–945م)
قام ناصر الدولة الحمداني الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان التغلبي المتوفى سنة (358ه‍/969م) الذي كان صاحب الموصل وما يليها، وهو الأخ الأكبر لسيف الدولة الحمداني، وكان بمنصب أمير الأمراء، قام بتشييد الدار من جديد، ورفع جدثي الإمامين وكللهما بالستور، وبنى عليهما قبة صغيرة، وأحاط سر من رأى بسور، ليأمن ساكنوها أو من يريد سكناها، كما بنى دورا حول دار الإمام وأسكنها جماعة.